عشتروت الحاضرة سرياً فوق عرشها

عشتروت الحاضرة سرياً فوق عرشها

ملكة النجمتين في الصباح إلهةً للعـشق وفي المساء

النهار - محمود الزيباوي

يحتفظ متحف بيروت بعرش جيري خال يُعرف باسم عرش عشتروت ومصدره عين بعل في صور. وبين أطلال معبد أشمون المبعثرة في بستان الشيخ قرب صيدا، يجد الزائر نفسه أمام عرش حجري مشابه. هنا وهناك، تغيب إلهة الحب والخصوبة وتحضر سريا فوق العرش الملكي الذي أُعدّ لها لتكون وسط عبادها. ويثير هذا الغياب أكثر من سؤال، ذلك أن الصور التي تمثّل عشتروت عديدة، وهي تعود الى عصور عديدة وتشهد لتحوّلات الإلهة خلال الأزمنة المتعاقبة التي مرّت على هذا الشرق.

يقع معبد أشمون فوق تلّة على الضفة اليسرى لنهر الأوّلي، إلى جوار نبع عُرف قديما باسم “عين يدل”. أنشىء هذا المعبد في القرن السادس قبل الميلاد وقد استمرّت ممارسة الطقوس فيه خلال العهد الهلينستي حيث أضيفت إليه معالم جديدة منها قاعة مربّعة لا سقف لها تقع على شمال حاجز الهيكل، طولها عشرة أمتار وعرضها خمسة أمتار. في هذا المصلّى الذي يعود في الأرجح إلى القرن الثالث قبل الميلاد، يرتفع العرش الخالي وسط مشكاة أُعدّت لاستقباله كما يظهر بشكل جلي، وقد أُقيم فوق قاعدة كبيرة مزيّنة بنقوش مصرية الطابع يحيطها أسدان جاثمان في ثبات. تآكل حجر العرش مع الزمن وفقد الكثير من زينته. يظهر بشكل واضح أنّ المثّال نحت جانبي الكرسي على شكل حيوانين من الفصيلة الرباعية الأقدام لم يبق من رأسيهما شيء. العرش خال تماماً أمّا نسبته إلى عشتروت فتؤكّدها كتابة تحمل اسمها حُفرت على قاعدة تمثال عُثر عليه في هذا المصلّى.

يشبه عرش عين بعل في هيكليّته الأساسية عرش بستان الكبير وهو كما يبدو معاصر له. نُحت الكرسي الشاغر في كتلة من الصخر. الجزء الخلفي مجرّد من أي زينة أمّا الواجهة السفلى فتحمل عنصرا نباتياً فرعونياً. وقد شُيّد جانبا المقعد على شكل أسدين لهما وجهان بشريان. يقف هذان السفنسكان بثبات ويمدّ كل منهما إحدى قائمتيه الأماميتين بشكل موازن، مماّ يهب هذه المقعد الذي نُحت في الحقبة الهلّينستية طابعا مصرياً صرفاً. ولا تغيب عشتروت تماماً عن هذا العرش، فبينما يبدو مسند ظهر كرسي بستان الشيخ مسطّحا وأملس ومجرّدا من أي شكل ناتئ، تحتلّ وسط مسند كرسي صور مسلّة ناتئة لا تحمل أيّة نقوش. و كما يعرف المختصون بالفنون القديمة، يرمز هذا النوع من المسلات بصورة لا تقبل الشك إلى الألوهة. وقد اتخذت أفروديت هذا الشكل المجرّد في أول تجليّاتها في جزيرة بافوس، وكما هو معروف، تُعتبر أفروديت قرينة لعشتروت ونظيرتها، وقد امتزجت بها في الحقبة الهلّينستية بحيث أمكن الحديث عن إلهة مركّبة أُطلق عليها اسم عشتروت-أفروديت.

ملكة السماء

صاحبة العرشين هي عشتروت، أي العشيرة والوفيرة والكثيرة، العذراء المقدسة والأم العذراء. أقدم ما وصلنا من شواهد تأتي على ذكرها يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. هي القمر وهي كوكب فينوس. أشرقت وسادت في سماء الآلهة حتى القرن الثالث للميلاد حيث كان لها معبد في بيروت كما تثبت قطع العملة الرومانية التي عُثر عليها في هذه المدينة والتي تحمل صورة مختزلة لهذا المعبد. احتار البحّاثة في تحديد طبيعة هذه الإلهة، فهي تارة إلهة حب وخصب، وطوراً سيدة المعارك التي “تجندل المحاربين وتسقي الأرض بدمائهم”، كما يصفها حمورابي في شريعته. هي ملكة نجمة الصبح وملكة نجمة المساء. هي في الصبح إلهة الحرب وفي المساء إلهة العشق، وقد عرفها الفينيقيون في صورتها الثانية ونشروا عبادتها حيثما حلّوا، فغدت إلهة الأنوثة والأمومة والطبيعة والحياة في سائر أنحاء العالم المتوسّطي.
ارتبط اسمها باسم بعل، رسول السماء واله الذكورة ومخصب الحياة، فعُرفت باسم “وجه بعل” و“صورة بعل” وصارت عبادتها عبادة لبعل. ونجد في الكثير من فصول الكتاب المقدّس ما يشهد لانتشار هذه العبادة. في سفر القضاة، يهدم جدعون بن يوآش المذبح الذي بناه أبوه لبعل ويقيم بدلاً منه مذبحاً للإله الواحد، وهذا ما أثار غضب أهل مدينته عليه. ويروي سفر الملوك الأول، أن سليمان الحكيم أحبّ نساء كثيرات “من الموآبيات والعمّونيات والأدوميّات والصيدونيّات والحثيّات”، فكان له سبع مئة زوجة وثلاث مئة سُريّة أزغن قلبه فخان العهد الإلهي وذهب وراء آلهة نسائه، ومنهن عشتروت إلهة الصيدونيين، وأقام لهنّ الهياكل، وهذا ما أثار لعنة الله على مملكته. في سفر أرميا، يصبّ النبي حمم غضبه على نساء قومه اللواتي “يعجن الدّقيق ليصنعوا أقراصا لملكة السماء” . ويتردّد صدى هذه اللعنة في الكتاب الأوّل من تحفة جون ميلتون “الفردوس المفقود” حيث يستدعي الشاعر عشتار التي يدعوها الفينيقيون عشتروت، ملكة السماء وزينتها هلال، تقصدها عذارى صيدون ليلا في حضور القمر، ويرفعن لها نذورهن ونشيدهنّ الذي بلغ صهيون حيث أرتفع هيكلها فوق جبل الجور، وهو الهيكل الذي بناه ذلك الملك، خليل الزوجات الذي وقع في غواية الوثنيات الفاتنات، فهوى أمام آلهتها الشائنة.

الصورة الحق

تعدّدت الأشكال التي ظهرت من خلالها عشتروت بحيث يصعب الحديث عن نموذج إيقونوغرافي خاص بها. من أشهر رموزها الأسد، الحصان، السفنسكس واليمامة، أمّا علامتها فقرص دائري يحوي نجمة ذات ثمانية رؤوس تذكّر بطبيعتها الكوكبيّة.

في متحف بيروت، تظهر نجمة الصبح والمساء في صورة فرعونيّة الطابع تؤكد دورها الأمومي. وفي متحف اللوفر، نراها تلتفّ برداء طويل وهي تحمل بيدها يمامة ترمز إلى رعايتها للأموات وسهرها عليهم. وتكثر صور الإلهة عبر التماثيل الصغيرة الحجم التي غالبا ما استخدمها القدماء في عبادتهم الخاصة. في المقابل، يظهر عرش عشتار أنّ الفينيقيين في ساحل المشرق استحدثوا لربّتهم الكليّة القدرة نموذجا إيقونوغرافيا جديداً ينزّهها ويرفعها إلى مقام غير المنظور وغير المدرك، والغريب أنّ هذا الصورة المجرّدة تتجلّى بحدودها القصوى في زمن شاعت فيه التماثيل التي تصوّر الآلهة ذات القدرة الخارقة في هيئة البشر، وقد غدا هذا الأسلوب تقليداً متبعا في سائر العلم الهلّينستي.

في صور كما في صيدا، تحضر الإلهة غير المشخّصة سرياً فوق عرش يحرسه الأسود. هي ربة الحب والخصوبة والأمومة وهي فوق كلّ ذلك الإلهة التي كان لها الرجحان في مجمع الآلهة الفينيقي، والألوهة لا تُدرك ولا توصف: خفيّة هي، لا يعرف لها شكل وليس لها من شبيه. تجليّاتها عديدة، أماّ صورتها الحق فلم يرها أحد قط.